ماذا تكون الفلسفة - أعني النشاطات الفلسفية - إن لم تكن العمل النقدي الذي يجريه التفكير على ذاته؟ إن لم تكن قائمة، ليس على شرعنة ما هو معلوم، وإنما على الشروع في معرفة كيف وإلى أي مدى يمكن التفكير بطريقة مختلفة؟ .. وفي كل الحالات تلك هي بالضبط وظيفة تاريخ الأفكار، في مقابل تاريخ السلوكيات أو التمثلات. أي أنها تعريف الظروف التي يضع الإنسان وجوده، وما يقوم به، والعالم الذي يعيش في محل طرح إشكالي" إنطلاقًا من نظرته هذه فإن فوكو لم يكتب تاريخًا للجنسانية، بمعنى سلوكات وتطبيقات الجنسانية في مراحلها المتعاقبة. بل عمل على دراسة الصيغ التي تؤدي بالأفراد تاريخيًا إلى التعرف على أنفسهم كأشخاص جنسانيين. وتحليل الممارسات التي من خلالها انتهى الأمر مع الأفراد إلى توجيه الانتباه نحو أنفسهم بالذات. بأن يكتشفوا في اللذة حقيقة وجودهم. إن الاهتمام بمسألة الذات، قاد فوكو إلى الاشتغال على مشروع الجنسانية، الذي يتمحور نظامه العام حول تاريخ الأخلاق أو حول سؤال: لماذا نجعل من السلوك الجنسي مسألة أخلاقية؟ فالجنس دائمًا كان المكان الذي تنعقد في حقيقة الذات الإنسانية. فبعد الحرية الجنسية التي ميزت العصرين الإغريقي والروماني، شهد القرن 17 م ولادة المحرمات المسيحية، وخاصة خلال طقس الاعتراف. والقرنين 18 و 19 م شهدا تطبيع جنسانية نافعة اقتصاديًا ( الأسرة والزواج ) ومحافظة سياسيًا، وصارت الجنسانية محصورة في الأسرة الزوجية حتى صار المجال العام يقوم على الطهرنة الصارمة. هكذا نجد أن السلطة انتقلب من السلطة على الدم في التاريخ القديم، إلى السلطة على الرغبة في المسيحية، إلى السلطة على الجنس في العصر الحديث.